قصائد الماجدي ليست مقطوعة الصلة بالشعرية العربية، لكنها تنتمي لخالقها

قراءة أولية في ( ممالك لغدٍ حيران )

عدنان حسين أحمد / أمستردام

 

 

"قد أجمع الجميع على أن الكناية أبلغ من الإفصاح، والتعريض أوقع من التصريح. وأن للإستعارة مزية وفضلاً. وأن المجاز أبداً أبلغ من الحقيقة. " (1) ما من نصٍ شعري يمس شغاف القلب، ويهز المشاعر والأحاسيس، ويلامس العاطفة الإنسانية إلا إذا كان مُزداناً بصورٍ شعريةٍ صادمة في جمال صياغتها بحيث لم يسبق لأحد من قبل أن جاء بها. أو قد تنطوي القصيدة على صور راكسة في اللاوعي أو الذاكرة الجمعية للناس، لكن الشاعر المبدع هو الذي يستحث نبضها، ويعيدها للحياة من خلال وضعها في نسق لغوي جديد لم يطرقه الشعراء من قبل. إن الأنساق اللغوية الجديدة وما تتضمنه من كناية وإستعارة ومجاز وتمثيل وكل ما يدخل في باب النسج والصياغات الجديدة الناجمة عن التفجّر المستمر لأوجه البلاغة والفصاحة في الألفاظ والمعاني التي أشار إليها عبد القاهر الجرجاني في كتابه النقدي القيِّم " دلائل الإعجاز "، إن هذه الأنساق اللغوية هي المعيار الذي نزن من خلاله تجربة الشاعر، ونعرف ثقلها النوعي بين تجارب أقرانه ومجايليه. أردتُ من خلال هذه المقاربة النقدية أن ألج إلى المجموعة الشعرية الأولى للشاعر عبد الرحمن الماجدي، والموسومة بـ " ممالك لغدٍ حيران " والصادرة عام 2002 عن " دار مخطوطات " في هولندا، لأقول بأن هذا الشاعر يحاول أن يغرّد خارج السرب، لأنه يكتب نصاً شعرياً ينتمي إليه، ولا يمكن إحالته، إلا بصعوبة نادرة، إلى مرجعية أخرى. وتأتي هذه السمة التي يتسم بها شعراء آخرون من مجايليه أمثال أحمد عبد الحسين، سليمان جوني، شعلان شريف، محمد الأمين، ناجي رحيم، موفق السواد، فيفيان صليوا، كزال أحمد، كولالة نوري، وسواهم ممن لا يتسع المجال لذكرهم الآن. إستطاع هؤلاء الشعراء خلال زمن قصير أن يخلقوا بصماتهم الخاصة بهم. ولا شك أن هذه البصمة متأتية من شعرية النصوص التي أفرزتها تجاربهم الشعرية بالرغم من قصر عمرها على الصعيد الزمني. ولو توخينا الدقة في قراءة " ممالك لغد حيران " فإننا سنرى فيها الكثير من النصوص التي تجاوزت ما هو سائد من كتابات شعرية في الصحف والمجلات والدوريات العربية المتخصصة، ولكن هذا لا يعني بالضرورة أن قصائد عبد الرحمن الماجدي يتيمة أو مقطوعة الصلة بالجذر العربي الشعري. كلا، أنها قصائد متصلة بالمنجز الشعري العربي، ولكنها تنتمي لخالقها، وهي لصيقة به أكثر من إلتصاقها بغيره من الشعراء. إن إجتراح أنساق لغوية جديدة هو من أولى المهام الأساسية لفعل المخيلة، ونعني بهذه " الأنساق " الصياغات اللغوية الجديدة التي نستولدها من الأسس البلاغية المتمثلة بالكناية والإستعارة والمجاز والتمثيل والتشبيه وما إلى ذلك من محسّنات بديعية لا يمكن لوحدها أن تستقيم بمعزل عن النص الشعري إلا إذا جاءت في المكان المناسب في البيت الشعري، وكوّنت علاقة خفية بين نسيج النص برمته. فرب إستعارة مذهلة تفقد بريقها لأن الشاعر وضعها في المكان الخطأ من نسيج نصه الشعري، ورب كناية ضعيفة تتألق لأنها جاءت ضمن السياق الصحيح، ولم تشذ عن بنية النص بكامله. لابد من الإقرار بأن نجاح النص الشعري الذي يكتبه الماجدي إنما هو ناجم بالدرجة الأولى عن اللغة المجازية التي يتكئ عليها مشروعي الشعري الواعد، فنادراً ما تتخلل اللغة " الحقيقية " المباشرة في تلافيف نصه الشعري. ولتوضيح هذا المنحى سأكتفي بعرض مقاطع من قصيدة " حديقة الرحمن " حيث يقول:

" أشار إلينا

وفي الظل تسلَّم نياشيننا

عندما الآخرون نسوا عيونهم في مباخرِ الأساقفة.

أشار إلينا. .

وإطلعني على آيةٍ منه،

على لحظة يقينه،

فتعرّفتُ على وريثه في بهو كلامه

عندما الآخرون ألبسوه قميص الردة

وخاطوا فم يومه بالوشاية.

*   *   *

على حشائش تأويله

نصبتُ شؤوني

وسوّرتها بالفراغ

وأجلستُ براهيني على أرائك حكمته

مُستدرجاً الحاذقين لعسلِ إنتظاره. "

لو تأملنا هذه الصور الشعرية الست فسنجد أنها تعتمد كثيراً على لغة مجازية غير مطروقة سابقة، وأن الأذن لم تعتدْ عليها، لكنها تَلقى في قلب السامع ومخيلته موقعاً حسناً، وهذا الإستحسان ناجم عن حلاوة التصوير، وغرابته في آنٍ معاً. هذا الإجتراح للصور الشعرية الجديدة، أو التي لم تُستهلك بعد، هو الذي يفتح أمام القارئ أو السامع أفقاً جديداً يطأه أول مرة، ولا يحيله إلى السائد، والمكرور، والمُستنفد من الصور الشعرية التي فقدت قوتها وبريقها من كثرة الإجترار وإعادة الإنتاج. آخذين بنظر الإعتبار أن الماجدي يكتب نصاً مكتملاً، لا يحتاج إلى حذف أو إضافة أو تشذيب، وهذا يعني من بين ما يعنيه، أن قصيدته لا تعتمد على البوح، والإسترسال، والإسهاب الفائض عن الحاجة. فثمة بنية داخلية تؤطر النص، وتمنعه من الإنفلات المُستكره الذي قد يتحول إلى عبء على النص، أو ينقلب إلى ورم خبيث يشوّه الإلتماعات الأساسية في معالم القصيدة. ولتوكيد صحة ما نذهب إليه نقتبس النص المُحْكم الذي لا يعرف إليه الترهل منفذاَ أو سبيلا:

مقبرة

" على سطح بيتنا ببغدادَ وجدنا مقبرة،

سكّانها:

أبي

وأمي

وأخوتي

وأنا.

أسكنونا مكانهم

وغادروا،

أبي يداري أخطاءَه بعكّاز.

أمي تبكي أبناءَها الميتين.

أخواتي يتفقدنَ أنوثتهن كلّ صباح

إخواني أبناء مكررون.

وأنا:

حماقة بعكّاز،

دموع على الميتين،

عنوسة رابضة،

أبناء مكررون،

ونبوءَة عاطلة. "

هنا تتجلى شعرية الماجدي المُحكمة من خلال ما يمكن تسميته ببنية المعادلة الرياضية، وبالرغم من أنه يقدّم الأسباب والنتائج أسوة بشروط النص الأرسطي الذي لا يحبّذ مشاركة القارئ في ( كتابة ) النص من خلال التوهّج الآني أثناء التحليق الناجم عن متعة النص. ومع ذلك فإن الطرف الآخر من المعادلة يقذف بالقارئ إلى فضاء الدهشة والإنبهار.

تتجلى شاعرية الماجدي في قصائد القصار أكثر من تجليها في بقية الأشكال الشعرية المعروفة. ومرّد ذلك هو ميله إلى التقشف، والإقتصاد، والإكتفاء بالنص الذي يتوافر على إيماضة قابلة للتوهج، ولا تنطفئ في ذاكرة القارئ بسهولة. ولابد من التنويه إلى أن الماجدي يتكئ أحياناً على لغة قديمة مُستمدة من الموروث العربي القديم، وتحديداً العباسي منه، وهذا ليس عيباً أو قصوراً في تجربته الشعرية طالما أنه متمكن من تطويع المفردات الحوشية في أنساق نصه الشعري بحيث أنها تبدو جزءاً من لحمة النص وسداته. كما تنبغي الإشارة إلى أن الماجدي قادر على توظيف الآي القرآني، وإستثمار القصص الواردة فيه. فقصيدته التي تحمل عنواناً بصَرياً جميلاً هو خمس نقاط محصورة بين قوسين ( . . . . . ) تنطوي على دلالة شعرية ممتعة تذكرنا بالآية الكريمة المقتبسة من " سورة النمل " والتي تقول: ( قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتدَّ إليكَ طرفك . . )، بينما يعيد الماجدي صياغة هذه الفكرة بالشكل التالي:

( . . . . . )

سليمان

والذي عنده علم من الكتاب

والهدهد،

أبي،

وصديقي

غضبوا جميعاً،

لأنني أحببتك قبل أن يرتَّدَ إليّّ طرفي. "

إن القدرة على رصد مكامن القوة في الصورة الشعرية، وإلتقاطها، والتعامل معها برؤية جديدة لا تقلل من أهمية التنّاص إذا توافر على بنية شعرية تعزّز النص، وتزوده بأسباب المنَعة والصمود لمدة أطول أمام غربال الزمن الذي لا يُبقي إلاّ ما ينفع الناس. وفي القرآن هناك آلاف من القصص والحكايات والحكم والأمثال والإلتماعات التي لم تُستنفد بعد، وربما يكون القرآن هو الكتاب الوحيد من بين الكتب السماوية المقدسة، الذي لم يُوظّف بشكل ممنهج ومدروس في المناحي الإبداعية في العالم العربي تحديداً خوفاً من الوقوع في بعض المزالق التي لا تُحمد عقباها. ثمة قصائد في هذا الديوان تتميز بدمها الخفيف، وبروحها الفكهة، الساخرة التي قلما نجدها في نصوص أقرانه من شعراء التسعينات. في قصيدة " المراهق الأشقر " يقول الماجدي:

" إبتسمتُ له،

 فهددني بسبّابته،

 ضحكتُ لهُ

فأبدلها بالوسطى! "

كما يمكن العودة للديوان والإستمتاع بالقصائد القصيرة التي إنضوت تحت عنوان ( ملابس ) وهي قصائد قصيرة، سلسة، تنطوي على مفارقات لغوية وأسلوبية تحقق متعة مؤكدة لقارئ النص الذي يُجابه بموضوعات جديدة، وربما تثيره في أعماقه سؤالاً مُلِّحاً وهو: كيف إستطاع الماجدي أن يروِّض هذه الموضوعات اليومية العابرة، ويصنع منها نصوصاً شعرية جديرة بالقراءة والإهتمام.

لابد من الإشارة إلى أن " دار مخطوطات " التي يشرف عليها الشاعر والفنان المبدع ناصر مؤنس هي التي تبنت إصدار هذه المجموعة الشعرية. وقد أخرجها مؤنس ضمن مقاسات التحفة المعروفة. فلا يمكن للقارئ أن يتصفح هذه المجموعة الشعرية من دون أن يتوقف طويلاً أمام التكوينات والأعمال الفنية التي تزدان بها المجموعة الشعرية من الغلاف الأول إلى اللوغو الذي يزيّن الغلاف الأخير. ومن المؤكد أن هذه الأعمال الفنية تقدّم قراءة موازية، أو مغايرة للقصائد، وليس بالضرورة أن تتماهى معها، أو تندغم فيها. وفي الختام أضم الماجدي بذراعي الأيمن، ومؤنس بذراعي الأيسر لكي نحلّق ثلاثتنا لممالك غدٍ أتمنى ألا يكون حيراناً!

23/11/2003     3/12/2003          القدس العربي    كيكا - بيبان - كتابات                                                      

>>