header_01.gif (13K)
 

الموت موجز الحكاية في "أندلس لبغداد"

عبد الرحمن الماجدي

1

كمن يزيح الغبارالجاثم، بعناية، عن اللقى التي تدلّه، لوحده، نقوشها على ماض وحاضر ملتبسين يدون الشاعر العراقي محمد مظلوم في كتابه/القصيدة "أندلس لبغداد" الصادر عام 2002 عن دار المدى في دمشق، تاريخ مدينته او تاريخه فيها وان بدا محرفا، فهو ليس بالضرورة التاريخ الرسمي لهذه المدينة التي كلما خرجت من حريق أطفأها حريق يليه ليغدو الرماد تاريخ بغداد كما يصفه الشاعر.

فان اوهمنا العنوان" أندلس لبغداد"الذي يوحي باستعادة بغداد لماض الاندلس بالرغم مما مرّ ويمرّ عليها سرعان ما تكشف قراءة متأنية للكتاب/ القصيدة موت  بغداد التي اعاد الشاعر روايتها  حسب تقويمه الشعري، هذا الموت الذي يؤطر بغداد منذ نشأتها ويؤطر كل المجاميع الشعرية التي اصدرها الشاعر؛ فـ الموت موجز الحكاية حسب تقويمه وحسب تأريخ هذه المدينة وحاضرها وربما حتى مستقبلها.

الاندلس هنا تشكل محورين للشاعر محمد مظلوم. الاول محور الاندلس الضائعة والمبكي عليها. والثاني اندلس بديل للوطن يشيد بالذكريات في رؤوس المنفيين. اندلس جديد يرى الشاعر حدوده حيث يقيم هو او اصدقاؤه المهاجرون، مادامت العودة اليه مستحيلة حينا وغير مرغوبة حينا آخر. اجمل ما في اندلسه البديل ناسهاالمميزون، ابوابها وجسورها التي وزعها الشاعر حسب خارطته القديمة الجديدة، دون ان يغفل - مع معرفتنا ما تشكله كلمتي( باب و جسر) من دلالة سيكولوجية- جسره المقصوف بالطائرات التي ربما تكون هذه المرة لذوي القربى  ليحرموه من العبور بين جهات اندلسه.

احسب ان محمد مظلوم - المولع بالمحذوف- احتال على العنوان " أندلس لبغداد" الذي يبدو ككمين للكثيرين؛ فـ(اندلس ) هي بديل لـ(بغداد) وليست شبيهة لها. فلكي يستقيم العنوان وما نتصوره سنقرأه مع محذوفه هكذا:"أندلس بديل لبغداد". اندلس بعيد عن بغداد. وليكن ذلك.

فبغداد المدينة التي كسواها وكما الوطن لكل انسان منفي لايربطه به سوى الذكريات التي يخزنها في صندوق رأسه  لنفسه ومن يحب واقترنت تلك الذكريات بأماكن في هذا المسمى ( الوطن) فهي للشاعر بمثابة ام ميتة حينا ومودعة ابناءها الميتين حينا آخر : الوطن.... امهاتنا في المقابر! ص63 ( المتأخر عابرا بين مرايا الشبهات)

لم تكن بغداد يوم تركْـتها

غير ام جنوبية

تصبغ عباءتها تحت امطار الحروب

بأنتظار من سيأتون ولن يأتوا

وهاهي ترسل ماتبقى من الناجين

بأسماء مستعارة

لأندلس لاتأتي. ص86(أندلس لبغداد)

 

2

بمعول يائس يواصل هدم حكايته ومدينته الآنفة التي تتهدم له كلما مس ركنا من تاريخها الاسود. ليسرد الميتات التي تتناوب المدينة منذ تأسيسها وحتى يومنا هذا ً بعد قرون

                                            فجر السابع عشر من كانون الثاني 1991

                                            وقفتُ على جبال ديانا في كردستان

                                            كي أرى مدينتي

                                            وانحدرتّ في اليوم التالي

                                            فوجدت المزارعين يعودون الى قراهم

                                            والرعاة الى سمائهم

                                           تاركين قطيعا الكترونيا

                                           يحرث بغداد على عجل. ص15

بالموت تأسست المدينة وتعيش على وقع خطاه الان. الموت هو المسافة مابين الخلود والفناء كما يراه الشاعر: الموت موجز الحكاية/ من الخلد حتى النهاية ! ص18.

التقط هنا الشاعربذكاء التشابه مابين كلمة الخلد كرمز للحياة حيث كانت تقام الاحتفالات البغدادية في (قاعة الخلد) والنهاية كرمز للموت (قصر النهاية) بعد ان تحول الى قاووش للنهاية المنتظرة للمغضوب عليهم من قبل السلطان، كنقيضين؛ وكرمزين للحياة والفناء /الخلد والنهاية. الخلد للحاكم والنهاية للمحمكوم!

هذان المكانان يقوداننا لأسماء الاماكن التي تكثر في الكتاب، الاسماء التي لايعرفها غير من سكن بغداد وحفظ شوارعها، حاناتها ومقاهيها فمدينة الثورة، الرصافة، كمب سارة، حسن عجمي، المعلق، باب الشرقي، البتاوين، حديقة الامة، ساحة الطيران، السراي..الخ مع مسميات اخرى دقيقة لها خصوصية اجتماعية وحتى نفسية لدى من يعرفها، جعلت الكتاب-القصيدة مغلقا في بعضه على غير العراقيين او البغداديين سكنا ومولدا، بل بدا محرضا ابناء المدينة الذين مرت ممحاة المنفى على دفاترهم ليشاركوه عذوبة التذكر حينا وعذابه حينا آخر.

 

3

ثمة مقاطع في القصيدة مكتوبة بطريقة عمود الشعر واخرى بالتفعيلة حيث بدأ الشاعر الكتابه بهما اواخر سبعينيات القرن الماضي كما كتب في سيرته، لتتناغم، ربما دون ان يتعمد ذلك، واستعاراته من الماضي البعيد لبغداد ثم الاقرب لعصر الشاعر، ولبقاء رواسب من ذينك النمطين الشكليين للشعر في لاوعي الشاعر ظهر اثر لهما في هذا الكتاب وسواه من مجاميع الشاعر الذي ينحاز لقصيدة النثر في كل كتبه الشعرية ومقالاته النقدية.

وظاهرة تضمين التفعيلة والعمودي في نصوص شعراء النثرلم تقتصر على محمد مظلوم انما نراها لدى شعراء مثل الشاعر سليم بركات الذي افرد فصلا كاملا من كتابه الشعري" المجابهات؛المواثيق الاجران؛ التصاريف، وغيرها" عام 1997 لشعر التفعيلة لنفس السبب الذي اوردناه آنفا وان اختلفت الضرورات او التبريرات لتضمينهما نصوصوهم.

وخلافا لمقولة" عين الرضا عن كل عيب كليلة..." الدارجة لدى النقاد والشعراء في تقديم او قراءة كتب اصدقائهم نشير الى ان بعض المقاطع التي اوردها الشاعر محمد مظلوم كان بامكانه حذفها ويبقى الكتاب/ القصيدة محافظا على جماله واهميته. اعني  مقاطع صغيرة من النثر والموزون( ولانعني هنا كل مقاطع التفعيلة والعمودي) اراد لها الشاعر ان تخلق موسيقى هادئة حينا وعالية اخرى مستعينا ببحر المتقارب الهاديء للاولى وبمجزوء الكامل والبسيط للثانية التي ربما بالغ الشاعر قليلا باقحام احدها في الكتاب (كأنه كتبها لتـُغنّى) اذ تشبه الى حدّ بعيد اغنية معروفة عن بغداد!

 

4

الشاعر محمد مظلوم  بدا ميلة لكتابة القصائد النثرية الطوال في أغلب مجموعاته الشعرية خاصة " ارتكابات، غير منصوص عليه" و" محمد والذين معه"، وهي كتابة قلما يتجه اليها او يحبذها الشعراء في السنوات الاخيرة خشية الترهل كما يرى البعض او تضامنا مع سوزان برنار في الاختزال لدى البعض الاخراو ضيق النفس الشعري كما عند الكثيرين. انما قصيدة محمد مظلوم "اندلس لبغداد" التي أمضى 4 سنوات في كتابتها- باعتبارها الاطول في قصائده جميعا، حاول إبعادها، عن الترهل الذي قلما ينجو منه نص طويل، مختزلا تاريخ مدينته في قصيدة.

يبدو ان محمد مظلوم كما نرى سيواصل كتابة المطولات كـ"اندلس لبغداد" في كتبه الشعرية القادمة، محافظا على تميز تجربته، التي بدأها منذ اكثر من 20 عاما، الجامعة بين الاسطورة- مع النهل من المرجعيات التاريخية- وتفاصيل الحياة اليومية.

 

5

" شممتُ في المنافي،

رائحة الطير التي ذ ُبحتْ في بساتينها،

وهَرّبتْ ريشها غربَ الفرات.

لو انها شحمة الأرض،

دَوّتْ خميرتها السوداء،

ونام مهندسوها- مطمئنين-

في الخراب.

لكنها زرافة ُ العصور،

تتلفتُ بأسنانها البيض،

ولاشجرٌ يَسْوَدّ،

أو فريسة ٌ تلمعُ.

 

لكنها خريطة ٌ تدفأتْ بالشرّ،

ألقيتُ في حريقها بذرة َ المهاجرين،

ونظرتُ في السماء،

مستوحشا ً شتاتَ قرابيني

ترتدّ اليّ،

ودماؤها تشخبُ على وجهي." ص6

 

>>